فصل: تفسير سورة هود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


الجزء الثالث من كتاب أضواء البيان

تفسير سورة هود

{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏‏.‏ اعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالحروف المقطعة في أوائل السور اختلافًا كثيرًا، واستقراء القرآن العظيم يرجح واحدًا من تلك الأقوال، وسنذكر الخلاف المذكور وما يرجحه القرآن منه بالاستقراء فنقول، وبالله جل وعلا نستعين‏:‏

قال بعض العلماء‏:‏ هي مما استأثر الله تعالى بعلمه‏.‏ كما بينا في ‏"‏آل عمران‏"‏ وممن روي عنه هذا القول‏:‏ أبو بكر، وعمر، وعثمان‏.‏ وعلي، وابن مسعود ـ رضي الله عنهم ـ وعامر والشعبي، وسفيان الثوري، والربيع بن خيثم، واختاره أبو حاتم بن حبان‏.‏

وقيل‏:‏ هي أسماء للسور التي افتتحت بها‏.‏ وممن قال بهذا القول‏:‏ عبد الرحمن بن زيد بن أسلم‏.‏ ويروى ما يدل لهذا القول عن مجاهد، وقتادة، وزيد بن أسلم‏.‏ قال الزمخشري في تفسيره‏:‏ وعليه إطباق الأكثر‏.‏ ونقل عن سيبويه أنه نص عليه‏.‏ ويعتضد هذا القول بما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة ‏{‏الم‏}‏ السجدة، و ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً‏}‏‏.‏

ويدل له أيضًا قول قاتل محمد السجاد بن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما يوم الجمل، وهو شريح بن أبي أوفى العبسي‏.‏ كما ذكره البخاري في صحيحه في أول سورة المؤمن‏:‏

يذكرني حاميم والرمح شاجر فهلا تلا حاميم قبل التقدم

وحكى ابن إسحاق أن هذا البيت للأشتر النخعي قائلًا‏:‏ إنه الذي قتل محمد بن طلحة المذكور‏.‏ وذكر أبو مخنف‏:‏ أنه لمدلج بن كعب السعدي‏.‏ ويقال كعب بن مدلج‏.‏ وذكر الزبير بن بكار‏:‏ أن الأكثر على أن الذي قتله عصام بن مقشعر‏.‏ قال المرزباني‏:‏ وهو الثبت، وأنشد له البيت المذكور وقبله‏:‏ وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترى العين مسلم

هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعًا لليدين وللفم

على غير شيء غير أن ليس تابعا عليًا ومن لا يتبع الحق يندم

يذكرني حاميم‏.‏‏.‏‏.‏ البيت‏.‏ اهـ ـ من فتح الباري‏.‏

فقوله‏:‏ ‏"‏يذكرني حاميم‏"‏، بإعراب ‏"‏حاميم‏"‏ إعراب ما لا ينصرف ـ فيه الدلالة على ما ذكرنا من أنه اسم للسورة‏.‏

وقيل‏:‏ هي من أسماء الله تعالى‏.‏ وممن قال بهذا‏:‏ سالم بن عبد الله، والشعبي، وإسماعيل بن عبد الرحمن السدي الكبير، وروي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما وعنه أيضًا‏:‏ أنها أقسام أقسم الله بها، وهي من أسمائه‏.‏ وروي نحوه عن عكرمة‏.‏

وقيل‏:‏ هي حروف، كل واحد منها من اسم من أسمائه جل وعلا‏.‏ فالألف من ‏"‏الم‏"‏ مثلًا‏:‏ مفتاح اسم الله، واللام مفتاح اسمه لطيف، والميم‏:‏ مفتاح اسمه مجيد، وهكذا‏.‏ ويروى هذا عن ابن عباس، وابن مسعود، وأبي العالية‏.‏ واستدل لهذا القول بأن العرب قد تطلق الحرف الواحد من الكلمة، وتريد به جميع الكلمة كقول الراجز‏:‏ قلت لها قفي فقالت لي قاف لا تحسبي أنا نسينا الإيجاف

فقوله‏:‏ ‏"‏قاف‏"‏ أي وقفت‏.‏ وقول الآخر‏:‏ بالخير خيرات وإن شرًا فا ولا أريد الشر إلا أن تا

يعني‏:‏ وإن شرًا فشر، ولا أريد الشر إلا أن تشاء‏.‏ فاكتفى بالفاء والتاء عن بقية الكلمتين‏.‏

قال القرطبي‏:‏ وفي الحديث ‏"‏من أعان على قتل مسلم بشطر كلمة‏"‏ الحديث‏.‏ قال سفيان‏:‏ هو أن يقول في أقتل‏:‏ أ ق‏.‏ إلى غير ما ذكرنا من الأقوال في فواتح السور، وهي نحو ثلاثين قولًا‏.‏

أما القول الذي يدل استقراء القرآن على رجحانه فهو‏:‏ أن الحروف المقطعة ذكرت في أوائل السور التي ذكرت فيها بيانًا لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها‏.‏ وحكى هذا القول الرازي في تفسيره عن المبرد، وجمع من المحققين، وحكاه القرطبي عن الفراء وقطرب، ونصره الزمخشري في الكشاف‏.‏

قال ابن كثير‏:‏ وإليه ذهب الشيخ الإمام العلامة أبو العباس بن تيمية، وشيخنا الحافظ المجتهد أبو الحجاج المزي، وحكاه لي عن ابن تيمية‏.‏

ووجه شهادة استقراء القرآن لهذا القول‏:‏ أن السور التي افتتحت بالحروف المقطعة يذكر فيها دائمًا عقب الحروف المقطعة الانتصار للقرآن وبيان إعجازه، وأنه الحق الذي لا شك فيه‏.‏

وذكر ذلك بعدها دائمًا دليل استقرائي على أن الحروف المقطعة قصد بها إظهار إعجاز القرآن، وأنه حق‏.‏

قال تعالى في البقرة‏:‏ ‏{‏الم‏}‏ واتبع ذلك بقوله ‏{‏ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ‏}‏ وقال في آل عمران ‏{‏الم‏}‏ واتبع ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ‏}‏‏.‏ وقال في الأعراف‏:‏ ‏{‏المص‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ الآية‏.‏ وقال في سورة يونس‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ وقال في هذه السورة الكريمة التي نحن بصددها ـ أعني سورة هود ‏{‏الر‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏، وقال في يوسف‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ المبين‏}‏ ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏ وقال في الرعد‏:‏ ‏{‏المر‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏، وقال في سورة إبراهيم ‏{‏الر‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏‏.‏ وقال في الحجر‏:‏ ‏{‏الر‏}‏ ثم قال ‏{‏الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ‏}‏ وقال في سورة طه ‏{‏طه‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى‏}‏ وقال في الشعراء‏:‏ ‏{‏طسم‏}‏ ثم قال ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ‏}‏‏.‏ وقال في النمل‏:‏ ‏{‏طس‏}‏ ثم قال ‏{‏طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ‏}‏ وقال في القصص ‏{‏طسم‏}‏ ثم قال ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ‏}‏{‏نَتْلُوا عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ‏}‏‏.‏ وقال في لقمان ‏{‏الم‏}‏ ثم قال ‏{‏تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ‏}‏ ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ‏}‏ وقال في السجدة ‏{‏الم‏}‏ ثم قال ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ وقال في يس ‏{‏يس‏}‏ ثم قال ‏{‏وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ‏}‏ وقال في ص ‏{‏وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ‏}‏ وقال في سورة المؤمن ‏{‏حم‏}‏ ثم قال ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏‏.‏

وقال في فصلت ‏{‏حم‏}‏ ثم قال ‏{‏تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ وقال في الشورى ‏{‏حمعسق‏}‏ ثم قال ‏{‏كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ‏}‏ وقال في الزخرف ‏{‏حم‏}‏ ثم قال ‏{‏وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ وقال في الدخان ‏{‏حم‏}‏ ثم قال ‏{‏وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ‏}‏ وقال في الجاثية ‏{‏حم‏}‏ ثم قال ‏{‏تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ وقال في الأحقاف ‏{‏حم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُونَ‏}‏‏.‏ وقال في سورة ق ‏{‏ق‏}‏ ثم قال ‏{‏والقرآن المجيد‏}‏‏.‏

وقد قدمنا كلام الأصوليين في الاحتجاج بالاستقراء بما أغنى عن إعادته هنا‏.‏

وإنما أخرنا الكلام على الحروف المقطعة مع أنه مرت سور مفتتحة بالحروف المقطعة كالبقرة، وآل عمران، والأعراف، ويونس‏.‏ لأن الحروف المقطعة في القرآن المكي غالبًا، والبقرة، وآل عمران مدنيتان والغالب له الحكم، واخترنا لبيان ذلك سورة هود‏.‏ لأن دلالتها على المعنى المقصود في غاية الظهور والإيضاح‏.‏ لأن قوله تعالى ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ بعد قوله ‏{‏الر‏}‏ واضح جدًا فيما ذكرنا، والعلم عند الله تعالى‏.‏

{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏}‏‏.‏ هذه الآية الكريمة فيها الدلالة الواضحة على أن الحكمة العظمى التي أنزل القرآن من أجلها‏:‏ هي أن يعبد الله جل وعلا وحده، ولا يشرك به في عبادته شيء، لأن قوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ‏}‏ الآية ـ صريح في أن آيات هذا الكتاب فصلت من عند الحكيم الخبير لأجل أن يعبد الله وحده، سواء قلنا إن ‏"‏أنه‏"‏ هي المفسرة‏.‏ أو أن المصدر المنسبك منها ومن صلتها مفعول من أجله، لأن ضابط ‏"‏أن‏"‏ المفسرة أن يكون ما قبلها متضمنًا معنى القول، ولا يكون فيه حروف القول‏.‏

ووجهه في هذه الآية أن قوله‏:‏ ‏{‏أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏}‏ فيه معنى قول الله تعالى لذلك الإحكام والتفصيل دون حروف القول، فيكون تفسير ذلك هو‏:‏ ‏{‏أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ‏}‏‏.‏

وأما على القول بأن المصدر المنسبك من ‏"‏أن‏"‏ وصلتها مفعول له فالأمر واضح، فمعنى الآية‏:‏ أن حاصل تفصيل القرآن هو أن يعبد الله تعالى وحده ولا يشرك به شيء‏.‏ ونظير هذا المعنى قوله تعالى في سورة الأنبياء‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ‏}‏ ومعلوم أن لفظة ‏"‏إنما‏"‏ من صيغ الحصر، فكأن جميع ما أوحي إليه منحصر في معنى ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ وقد ذكرنا في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏‏.‏ أن حصر الوحي في آية الأنبياء هذه في توحيد العبادة حصر له في أصله الأعظم الذي يرجع إليه جميع الفروع، لأن شرائع الأنبياء كلهم داخلة في ضمن معنى ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ لأن معناها‏.‏ خلع جميع المعبودات غير الله جل وعلا في جميع أنواع العبادات، وإفراده جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات، فيدخل في ذلك جميع الأوامر والنواهي القولية والفعلية والاعتقادية‏.‏

والآيات الدالة على أن إرسال الرسل، وانزال الكتب لأجل أن يعبد الله وحده كثيرة جدًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

وقد أشرنا إلى هذا البحث في سورة الفاتحة، وسنستقصي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في سورة ‏"‏النَّاس‏"‏، لتكون خاتمة هذا الكتاب المبارك حسنى‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏‏.‏ هذه الآية الكريمة تدل على أن الاستغفار والتوبة إلى الله تعالى من الذنوب سبب لأن يمتع الله من فعل ذلك متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى‏.‏ لأنه رتب ذلك على الاستغفار والتوبة ترتيب الجزاء على شرطه‏.‏

والظاهر أن المراد بالمتاع الحسن‏.‏ سعة الرزق، ورغد العيش، والعافية في الدنيا، وأن المراد بالأجل المسمى‏:‏ الموت، ويدل لذلك قوله تعالى في هذه السورة الكريمة عن نبيه هود عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام‏:‏ ‏{‏وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ‏}‏ وقوله تعالى عن نوح‏:‏ ‏{‏فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً‏}‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ‏}‏ وقوله ‏{‏وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ‏}‏‏.‏ يبين تعالى في هذه الآية الكريمة‏.‏ أنه لا يخفى عليه شيء، وأن السر كالعلانية عنده، فهو عالم بما تنطوي عليه الضمائر وما يعلن وما يسر، والآيات المبينة لهذا كثيرة جدًا، كقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏}‏ وقوله جل وعلا‏:‏ ‏{‏إِنِّي‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْءَانٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الاٌّرْضِ وَلاَ فِى السَّمَآءِ‏}‏‏.‏ ولا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا وجدت فيها آية بهذا المعنى‏.‏

تنبيه مهم

اعلم أن الله تبارك وتعالى ما أنزل من السماء إلى الأرض واعظًا أكبر، ولا زاجرًا أعظم مما تضمنته هذه الآيات الكريمة وأمثالها في القرآن، من أنه تعالى عالم بكل ما يعمله خلقه، رقيب عليهم، ليس بغائب عما يفعلون‏.‏ وضرب العلماء لهذا الواعظ الأكبر‏.‏ والزاجر الأعظم مثلًا ليصير به كالمحسوس، فقالوا‏:‏ لو فرضنا أن ملكًا قتّالا للرجال، سفّاكًا للدماء شديد البطش والنكال على من انتهك حرمته ظلمًا، وسيافه قائم على رأسه، والنطع مبسوط للقتل، والسيف يقطر دمًا، وحول هذا الملك الذي هذه صفته جواريه وأزواجه وبناته، فهل ترى أن أحدًا من الحاضرين يهتم بريبة أو بحرام يناله من بنات ذلك الملك وأزواجه، وهو ينظر إليه، عالم بأنه مطلع عليه‏؟‏ لا، وكلا بل جميع الحاضرين يكونون خائفين، وجلة قلوبهم، خاشعة عيونهم، ساكنة جوارحهم خوفًا من بطش ذلك الملك‏.‏

ولا شك ‏(‏ولله المثل الأعلى‏)‏ أن رب السموات والأرض جل وعلا أشد علمًا، وأعظم مراقبة، وأشد بطشًا، وأعظم نكالًا وعقوبة من ذلك الملك، وحماه في أرضه محارمه‏.‏ فإذا لاحظ الإنسان الضعيف أن ربه جل وعلا ليس بغائب عنه، وأنه مطلع على كل ما يقول وما يفعل وما ينوي لان قلبه، وخشي الله تعالى، وأحسن عمله لله جل وعلا‏.‏

ومن أسرار هذه الموعظة الكبرى أن الله تبارك وتعالى صرح بأن الحكمة التي خلق الخلق من أجلها هي أن يبتليهم أيهم أحسن عملًا، ولم يقل‏:‏ أيهم أكثر عملًا، فالابتلاء في إحسان العمل، كما قال تعالى في هذه السورة الكريمة‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏‏.‏

وقال في الملك‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ‏}‏‏.‏

ولا شك أن العاقل إذا علم أن الحكمة التي خلق من أجلها هي أن يبتلى أي يختبر‏:‏ بإحسان العمل فإنه يهتم كل الاهتمام بالطريق الموصلة لنجاحه في هذا الاختبار، ولهذه الحكمة الكبرى سأل جبريل النَّبي صلى الله عليه وسلم عن هذا ليعلمه لأصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏أخبرني عن الإحسان‏"‏، أي وهو الذي خلق الخلق لأجل الاختبار فيه، فبين النَّبي صلى الله عليه وسلم أن الطريق إلى ذلك هي هذا الواعظ، والزاجر الأكبر الذي هو مراقبة الله تعالى، والعلم بأنه لا يخفى عليه شيء مما يفعل خلقه، فقال له‏:‏ ‏"‏الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك‏"‏‏.‏

واختلف العلماء في المراد بقوله في هذه الآية الكريمة ‏{‏أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ وقوله ‏{‏يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ‏}‏ وفي مرجع الضمير في قوله‏:‏ ‏{‏مِنْهُ‏}‏‏.‏

فقال بعض العلماء‏:‏ معنى ‏{‏يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ‏}‏ يزورون عن الحق، وينحرفون عنه، لأن من أقبل على الشيء استقبله بصدره، ومن ازور عنه وانحرف ثنى عنه صدره، وطوى عنه كشحه‏.‏ بهذا فسره الزمخشري في الكشاف‏.‏

قال مقيده ـ عفا الله عنه ـ وهذا المعنى معروف في كلام العرب، فهم يعبرون باعوجاج الصدر عن العدول عن الشيء والميل عنه، ويعبرون بإقامة الصدر عن القصد إلى الشيء وعدم الميل عنه‏.‏

فمن الأول قوله ذي الرمة غيلان بن عقبة العدوي عدي الرباب‏:‏ خليلي عوجا بارك الله فيكما على دارمي من صدور الركائب

تكن عوجة يجزيكما الله عنده بها الأجر أو تقضي ذمامة صاحب

يعني‏:‏ اثنيا صدور الركائب إلى دارمي‏.‏

ومن الثاني قول الشنفرى‏.‏ أقيموا بني أمي صدور مطيكم فإني إلى قوم سواكم لأميل

وقول الآخر‏:‏ أقول لأم زنباع أقيمي صدور العيش شطر بني تميم

وقيل‏:‏ نزلت هذه الآية الكريمة في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة‏.‏

كان حلو المنطق، يلقى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحب وينطوي له بقلبه على ما يسوء‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مر بالنَّبي صلى الله عليه وسلم ثنى صدره وظهره، وطوطأ رأسه وغطى وجهه لكيلا يراه النَّبي صلى الله عليه وسلم فيدعوه إلى الإيمان‏.‏ حكي معناه عن عبد الله بن شداد‏.‏

وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها نزلت في قوم كانوا يكرهون أن يجامعوا أو يتغوطوا وليس بينهم وبين السماء حجاب، يستحيون من الله‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ معنى ‏{‏يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ‏}‏ يغطون رؤوسهم لأجل كراهتهم استماع كلام الله، كقوله تعالى عن نوح‏:‏ ‏{‏وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً‏}‏‏.‏

وقيل‏:‏ كانوا إذا عملوا سوءًا ثنوا صدورهم وغطوا رؤوسهم، يظنون أنهم إن فعلوا ذلك أخفوا به عملهم على الله جل وعلا‏.‏ ويدل لهذا الوجه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ‏}‏‏.‏

وقرأ ابن عباس هذه الآية الكريمة ألا إنهم تثنوني صدورهم‏"‏ وتثنوني مضارع اثنوني، ووزنه افعوعل من الثني كما تقول احلولى من الحلاوة وصدورهم ‏"‏في قراءة ابن عباس بالرفع فاعل تثنوني، والضمير في قوله ‏"‏منه‏"‏ عائد إلى الله تعالى في أظهر القولين‏.‏ وقيل‏:‏ راجع إليه صلى الله عليه وسلم كما مر في الأقوال في الآية‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ‏ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَـئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَـئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ‏}

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً‏}‏‏.‏ صرح في هذه الآية الكريمة أنه خلق السماوات والأرض لحكمة ابتلاء الخلق، ولم يخلقهما عبثًا ولا باطلًا‏.‏ ونزه نفسه تعالى عن ذلك، وصرح بأن من ظن ذلك فهو من الذين كفروا وهددهم بالنار، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ‏}‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏}‏ وقال ‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ‏}‏‏.‏ المراد بالأمة هنا‏:‏ المدة من الزمن‏.‏ ونظيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ‏}‏‏.‏ أي تذكر بعد مدة‏.‏

تنبيه

استعمل لفظ ‏{‏الأمَّة‏}‏ في القرآن أربعة استعمالات‏:‏

الأول‏:‏ هو ما ذكرنا هنا من استعمال الأمة في البرهة من الزمن‏.‏

الثاني‏:‏ استعمالها في الجماعة من الناس، وهو الاستعمال الغالب، كقوله ‏{‏وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ‏}‏، وقوله ‏{‏كَانَ النَّاسُ أُمَّةً‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

الثالث‏:‏ استعمال ‏{‏الأُمَّة‏}‏ في الرجل المقتدى به‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً‏}‏‏.‏

الرابع‏:‏ استعمال ‏{‏الأُمَّة‏}‏ في الشريعة والطريقة‏.‏ كقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏َإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً‏}‏، إلى غير ذلك من الآيات‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ‏}‏‏.‏ صرح تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن من عمل عملًا يريد به الحياة الدنيا أعطاه جزاء عمله في الدنيا، وليس له في

الآخرة إلا النار‏.‏

ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الشورى‏:‏ ‏{‏وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ‏}‏ ولكنه تعالى يبين في سورة بني إسرائيل تعليق ذلك على مشيئته جل وعلا بقوله‏:‏ ‏{‏مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ‏}‏ وقد أوضحنا هذه المسألة غاية الإيضاح في كتابنا ‏"‏دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب‏"‏ في الكلام على هذه الآية الكريمة، ولذلك اختصرناها هنا‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ‏}‏‏.‏ صرح تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن هذا القرآن لا يكفر به أحد كائنًا من كان إلا دخل النار‏.‏ وهو صريح في عموم رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الخلق‏.‏ والآيات الدالة على ذلك كثيرة، كقوله تعالى ‏{‏وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً‏}‏‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ نهى الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن الشك في هذا القرآن العظيم، وصرح أنه الحق من الله‏.‏ والآيات الموضحة لهذا المعنى كثيرة جدًا كقوله ‏{‏الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏الم تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ونحو ذلك من الآيات‏.‏

والمرية‏:‏ الشك‏.‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏ صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن أكثر الناس لا يؤمنون، وبين ذلك أيضًا في مواضع كثيرة، كقوله ‏{‏وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ‏}‏ وقوله ‏{‏وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ‏}‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ إلى غير ذلك من الآيات‏.‏

‏{‏أُولَـئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ‏}‏‏.‏ بين تعالى في هذه الآية الكريمة‏:‏ أن الكفار الذين يصدون الناس عن سبيل الله ويبغونها عوجًا، يضاعف لهم العذاب يوم القيامة، لأنهم يعذبون على ضلالهم، ويعذبون أيضًا على إضلالهم غيرهم، كما أوضحه تعالى بقوله‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَـاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ‏}‏‏.‏